من بعيد جاء صوته واهناً.. مرهقاً، وهو يقول عبر الهاتف: يا صديقي لقد نكأت في نهاية مقالك بالأمس جرحا لم يتوقف نزيفه منذ شهور طويلة عندما اتخذت قرار العودة من غربتي في الخليج لأقضي ما تبقى من عمري بين أبنائي وأحفادي وأنا من جاوزت الستين عاماً، قضيت قرابة نصفها في دولة خليجية شقيقة أساهم في تنميتها بعمل شريف، حصلت بعدها على مكافأة نهاية خدمة مجزية وودعت أصحاب العمل والزملاء والأصدقاء وعدت قبل عامين إلى مصر المحروسة.

بدأت التخطيط لاستثمار المبلغ الذي تجاوز المليون جنيه بقليل، واستغرقت مع زوجتي وأكبر أبنائي في كيفية استثمار المبلغ في وعاء ادخاري آمن، أو مشروع تجاري بسيط يحقق عائداً «يسترنا» أنا وزوجتي في أواخر عمرنا، دونما مغامرة أو رغبة في تنمية المبلغ، فلم يعد في العمر بقية، ولا نطمع في غير «الستر»، ومبلغ شهري بسيط يغطي التزاماتنا الحياتية، ويدفع فواتير علاجنا، وكلفة شراء أدويتنا، فقد انتهينا والحمد الله من تعليم الأبناء وزواجهم، وسترنا الله بمنزل لا ندفع إيجاره، وسيارة بقسط معقول.

ويواصل صديقي المغترب العائد إلى أحضان المحروسة سرد ما جرى: .. طبعاً تم استبعاد كل أنواع الاستثمارات والأوعية ذات المخاطر العالية رغم العوائد المغرية وعلى رأسها: شراء الأسهم في البورصة، شراء العملات الإلكترونية مثل البيتكوين وشقيقاتها، وطبعاً ابتعدنا عن تسليم «شقى العمر» لأي «مستريح» ممن أوصى بهم «فعلة الخير»، ولم نجرؤ على مشاركة أي من الأقارب أو الأصدقاء في مشاريع صغيرة مثل مزارع الدواجن، وتسمين العجول وزراعة النباتات الطبية، حتى لا نخسر ما تبقى من أقارب وأصدقاء.. أو نخسر أموالنا!

وكان الحل في «ودائع البنوك».. ولكنها كانت كالدواء المر، واسترجعنا بذاكرتنا ما حدث للعديد من الأصدقاء الذين وضعوا كل ما يملكون في «ودائع مصرفية» بعوائد لا تتجاوز 9% سنويا، وكيف ابتلع التضخم القيمة الحقيقية لمدخراتهم، كما اضطرتهم مفاجآت الحياة إلى «كسر» ودائعهم الواحدة تلو الأخرى ومعها «انكسرت» ظهورهم من بعد اكتفاء وستر.

استرجعت كل ذلك عندما قرأت «اقتراحك» بالأمس بتخصيص الحكومة بالتعاون مع البنوك لوعاء ادخاري آمن ومميز لكبار السن، ممن فوق الـ 60، وتمنيت أن يجد استجابة.

ولصديقي المغترب العائد أقول: يا سيدي ما ناديت به بالأمس ليس «اختراعاً» دون سابقة، فهناك بلاد كثيرة تقدر عطاء مواطنيها الذين بلغوا سن التقاعد 60 أو 65 عاماً وتسمح لهم بوضع مدخراتهم في وعاء ادخاري خاص بهم، وتحدد سقفاً أعلى للمبالغ المدخرة، ويصل العائد إلى ضعف الفائدة التي تمنحها البنوك لحسابات التوفير العادية، وذلك تقديراً لعطائهم واحتراماً لشيخوختهم، ويكون ذلك لكل المواطنين الذين يبلغون هذا العمر وليس للمغتربين فقط..

أما المغتربون فللحديث عنهم بقية.. إن كان في العمر بقية.

وحفظ الله مصر وأهلها من كل سوء.