.. خارج تصنيفات البشر من لم تتفجر مآقيه دمعاً وهو يرى مشهد جثث الأطفال المتراصة في ثلاجة صغيرة.. بعضها فوق بعض، وقد تسربلت أجسادهم الغضة الليّنة بالبياض، وعلت وجوههم المكشوفة ابتسامة ملائكية.
.. خارج نطاق الإنسانية من لم يهزّ مشاعره هزاً منظر الأم الثكلى التي انحنت في ثبات لتودع ابنتها الطفلة، - المسجاة أمام عينيها- دون أن تصرخ أو تلطم أو تشق الجيوب وتهيل التراب، ولكن نظرة واحدة في عيني هذه الأم وهي ترفع رأسها من فوق جبين وخدود طفلتها بعد قبلة الوداع الطويلة، كافية لتزلزل النفس وتعصف بالوجدان، فلم أرَ من قبل حزناً صامتاً بهذا العمق، ولا غضباً مكبوتاً يكاد يتفجر براكين برغم الصمت، ولا امرأة تودع طفلتها بهذا الصبر والإيمان والاحتساب.
.. خارج حدود الطبيعة.. من لم يعصف به ضميره عصفاً وهو يتابع ذاك الشيخ الشهيد الممدد على الأرض وقد أشارت سبابتاه الى السماء، واتجهت عيناه المفتوحتان صوب السحاب، وكأنه يشهد الله عز وجل على ظلم الإنسان لأخيه الإنسان، .. وتخلي المسلم عن أخيه المسلم، وكيف لأمة كانت خير أمة أخرجت للناس، فأصبحت كثرة كالغثاء، وعدداً بلا قيمة، وكمّاً بلا كيف، وضجة بلا طحن.
.. قرابة شهر و«غزة» تدفع الثمن وحدها..
.. ثمن عصر التراجع الإسلامي الذي تعيشه الأمة «جمعاء»..
.. ثمن أشاوس «داعش» و«النصرة» و«أنصار بيت المقدس» و«فيلق بدر» و«أجناد مصر» و«القاعدة»... نجوم عصر التراجع الإسلامي الحارقة، التي لم يطلق «أشوس» فيها طلقة رصاص واحدة تجاه المحتل الغاصب، وتفرغوا لقطع رؤوس من يخالفهم في الرأي من أمة محمد عليه أفضل الصلاة والسلام.
.. ثمن الصراع المذهبي والطائفي البغيض الذي ينكره ويهاجمه كل طرف في العلن، بينما يؤجج الجميع نيرانه سراً، وفي مجالسهم الخاصة، التي يُكفّر فيها المسلمون المسلمين، ويلعن فيها المسلم أخاه المسلم.
.. ثمن علماء حسبناهم أجلاء.. تركوا تعريف الناس بأمور دينهم ودنياهم، وتفرغوا إما لجمع الأموال من برامج وشاشات الفضائيات، أو للانخراط في السياسة التي دنسوا بها الدين، وأداروا بها عنق الحقيقة أينما شاءت مصالحهم ومكاسب أحزابهم، وعندما أرادوا إقناعنا بالعودة الى طريق الدين، صفعوا وجوهنا بفتاوى إرضاع الكبير وحكم شرب بول البعير، وصحة نكاح الجهاد.. ومشروعية جماع الزوجة المتوفاة، وقصص عذاب القبر وثعبانه الأقرع.
.. ادفعي يا غزة وحدك زكاة الدم العربي البارد
.. ادفعي يا غزة وحدك ضريبة الدم الإسلامي المتجمد منذ قرون.
.. ادفعي يا غزة وحدك ثمن التشرذم والتطاحن والتخلف والجمود والاضمحلال والتراجع العربي والإسلامي ولا تصرخي «وامعتصماه».. فالمعتصمون الآن تركوا حبل الله جميعاً.. وتفرقوا في تونس وليبيا والسودان ومصر ولبنان وسورية والعراق يقاتلون بعضهم البعض.. ولا يشيرون ولو «بحديدة» الى أبناء القردة والخنازير.. قاتلي أطفالك ونسائك وشيوخك، والذين باتوا يحكمون عالماً قنعنا نحن بالركود في قاعه.
ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وحفظ الله مصر وغزة وفلسطين وسائر شعوب بلاد المسلمين من كل سوء.